تشهد أسواق السلع العالمية حالة من الاضطراب منذ تفشي النزاع في أوكرانيا، حيث تصاعدت المخاوف بشأن توفر المواد الخام نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا. شهدت أسعار السلع الأساسية مثل اليورانيوم والقمح والنيكل ارتفاعات ملحوظة عقب الغزو الروسي، إذ سجل مؤشر بلومبرج للسلع مستويات قياسية جديدة بزيادة تتجاوز 25% منذ بداية العام الجاري.
تعكس هذه الزيادة في الأسعار القلق من أن العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على روسيا قد تؤدي إلى نقص في المواد الخام المستخدمة في العديد من القطاعات الصناعية، خاصة في مجال الطاقة، حيث تعتبر روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي وثاني أكبر مصدر للنفط. بالإضافة إلى ذلك، تعد أوكرانيا من أبرز المصدرين للسلع الزراعية الأساسية مثل زيت عباد الشمس والقمح والذرة.
تتجلى أهمية الاعتماد العالمي على روسيا في توفير مجموعة واسعة من السلع، بالمثل يعد الغاز الطبيعي والفحم والنفط وخام الحديد والألمنيوم والمعادن الأساسية مثل البلاتين والزنك والنحاس والرصاص والبتروكيماويات والأسمدة من العناصر الهامة. إلى جانب ذلك، تستثمر العديد من الشركات الكبرى في النفط والغاز وكذلك شركات التعدين في روسيا.
على الرغم من توقعات إعادة توجيه السوق، حيث يُرجح أن تقوم بعض الدول مثل الصين والهند وإيران التي لم تفرض عقوبات باستيعاب الإمدادات، مما قد يخفف من حدة النقص في الإمدادات للدول الغربية. ومع ذلك، تشير المعطيات إلى أن الزيادة الحالية في الأسعار لبعض السلع تبدو غير مبررة نسبة لاضطرابات العرض المحتملة الناشئة عن النزاع الروسي الأوكراني.
أداء سوق النفط الخام
يبدو أن سوق النفط الخام قد يواجه تعديلات سريعة في العرض تحت الظروف الجديدة. تقدر وكالة الطاقة الدولية أن دول أوبك بلس تمتلك طاقة احتياطية تزيد عن 6 ملايين برميل يومياً اعتباراً من مارس، مقارنة بإنتاج فبراير، حيث تتركز هذه الطاقة الاحتياطية بشكل أساسي في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، وهذه الكمية تمثل ضعف ما تصدره روسيا إلى الدول الغربية. علاوة على ذلك، يمكن لصناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة أن تقدم إمدادات هامة في إطار زمني وجيز، استجابةً لدعوات وزير الطاقة الأمريكي لزيادة الإنتاج بما يساعد في ضبط الأسعار.
إذا لم تصعد الأزمة أكثر، وزاد المنتجون من خارج روسيا من الإمدادات، فإن أسعار النفط قد تكون وصلت إلى ذروتها. ومن المتوقع أن تعود الأسعار تدريجياً إلى مستوى 70 دولار للبرميل على المدى المتوسط، وهو المستوى الذي يكفي لتوليد تدفقات نقدية كافية للمنتجين لتمويل الاستثمارات اللازمة والمحافظة على مستويات الإنتاج المطلوبة من قبل المستهلكين.
بالمقابل، في حال غياب استجابة سريعة من المنتجين الآخرين واستمرت التوترات في أوكرانيا، فقد يتقلص توافر النفط بشكل كبير، ويُحتمل أن يتراجع المعروض بمعدل 2.5 مليون برميل يومياً خلال الربع الثاني من عام 2025، مما قد يؤدي لرفع أسعار النفط إلى 200 دولار للبرميل. لكن من المحتمل أن تنخفض أسعار النفط لاحقًا، حيث ستؤدي الأسعار المرتفعة في النهاية إلى تحفيز الإنتاج وتقليل الطلب والتسريع في الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، مما يجعل الأسعار تتجه نحو مستوى 70 دولار للبرميل.
أسواق السلع الزراعية
يعكس الارتفاع الكبير في أسعار السلع الزراعية المخاوف بشأن توفر محاصيل معينة من روسيا وأوكرانيا، ومع ذلك، يجب ملاحظة أن السلع الزراعية ليست قابلة للتخزين لفترات طويلة بعد الحصاد. وفي ظل تضرر الحرب، فإن روسيا، التي لا تعاني من ضغوط على محاصيلها، قد تفضل بيعها بدلاً من السماح بتلفها لدول لم تفرض عقوبات. كذلك، سيساعد تزايد التوافر الناجم عن المنتجين من دول مثل الأرجنتين وأستراليا والبرازيل والولايات المتحدة على استقرار السوق.
ومع ذلك، ارتفعت أسعار السلع الزراعية قبل الأزمات الجارية، نتيجة لزيادة الطلب وارتفاع التكاليف المتعلقة بالطاقة والنقل والأسمدة، التي ستظل متأثرة بالعقوبات المفروضة على روسيا. لذا من المحتمل أن تبقى الأسعار مرتفعة مقارنةً بالسنوات السابقة.
سوق المعادن الصناعية
ارتفعت أسعار المعادن الصناعية بشكل ملحوظ منذ منتصف عام 2025، وذلك جزئيًا بسبب الحاجة لهذه المعادن في التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. ومع ذلك، شهدت الأسواق مؤخرًا انخفاضاً في الأسعار، حيث تراجعت إلى مستويات أدنى مما يؤشر عليه الطلب كما توضح مسوحات مؤشر مديري المشتريات في الأسواق الناشئة.
تتباين التوقعات المستقبلية للأسعار، فعلى سبيل المثال، بالنسبة لبعض المعادن مثل الألمنيوم والنحاس، هناك فائض من الطاقة الإنتاجية في دول مثل تشيلي والصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى استقرار الأسعار. بينما بالنسبة لمنتجات أخرى مثل النيكل والتيتانيوم واليورانيوم، فإن روسيا وأوكرانيا توفران حصة كبيرة من الإنتاج العالمي، ما يجعل العثور على موردين بديلين أمراً معقداً، مما ينذر باستمرار ارتفاع الأسعار في المستقبل.
أسعار المعادن الثمينة
لا يعد مفاجئًا أن زيادة النفور من المخاطر جراء الأحداث الأخيرة أدت إلى دفع سعر الذهب نحو أقصى الحدود المتوقعة وفق الأساسيات طويل الأجل. كما هو شائع، يتبع سعر الفضة نمطًا مشابهًا. وتعتمد استدامة الأسعار المرتفعة في الوقت الراهن بصورة كبيرة على كيفية تطور الأزمة حيث إن تخفيض التصعيد قد يقلل من الطلب على أصول الملاذ الآمن ويدفع الأسواق للتركيز مجددًا على تطبيع السياسة النقدية المُنتظرة من قبل البنوك المركزية.
كما شهدت أسعار المعادن الثمينة الأخرى، مثل البلاديوم والبلاتين، زيادات أيضاً، نظرًا للاهتمام المتزايد بشأن توافرها في ظل الهيمنة الروسية في إنتاج تلك المعادن. في حال حدوث خفض للتوترات الروسية الأوكرانية، فإن التحول السريع الجاري إلى مصادر الطاقة المتجددة، وارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية قد يشكل تحديًا طويل الأمد لأسعار البلاتين والبلاديوم.
التوقعات المستقبلية لأسعار السلع
على المدى القريب، ستظل أسعار السلع مدفوعة بتطورات الحرب والعقوبات الجديدة، بينما من المتوقع على المدى الطويل أن يتجه الإمداد من دول أخرى تدريجيًا لتعويض الفقد في الصادرات الروسية والأوكرانية. رغم أن هذه العملية ستختلف باختلاف السلع، يبدو أن الزيادة الحالية في المخاطر المغلّفة بأسعار السلع الأساسية ستتراجع، مما سيؤدي إلى اعتدال الأسعار تدريجياً.
من المتوقع أن يتحقق هذا الاعتدال في أسعار النفط الخام والذهب وبعض السلع الزراعية والمعادن الصناعية مثل النحاس والألمنيوم. من ناحية أخرى، من المحتمل أن تستمر الضغوط السعرية على السلع التي سبق لروسيا وأوكرانيا أن هيمنتا على توريدها، مثل اليورانيوم المُعالج والبلاديوم والنيكل والتيتانيوم، في حين أن أسعار السلع الزراعية ستبقى مرتفعة نظرًا لتزايد تكاليف المدخلات مثل الطاقة والأسمدة.